منتديات لمسات حنان
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات لمسات حنان

*:*:*:*:* عيش حياتك وجددزكرياتك مع منتديات لمسات حنان*:*:*:*:*
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 القيادة حب

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
عبد الباقي




ذكر عدد الرسائل : 2
العمر : 39
العمل/الترفيه : النشاطات الثقافية
علم دولتك : القيادة حب Lebanon
تاريخ التسجيل : 20/05/2010

القيادة حب Empty
مُساهمةموضوع: القيادة حب   القيادة حب I_icon_minitimeالأحد مايو 30, 2010 10:44 pm

القيــادة حب يا أخي

لقد كان الاستعداد لهذه الغزوة –على غير العادة- ذا أبعاد إعلامية وسياسية وتربوية، واجتماعية، وتاريخية ونفسية أيضا..وكان على أعلى درجات التنظيم والضبط والإتقان، وقد لعبت الدبلوماسية الداخلية أدوارا لم تكن معهودة من قبل.. كما لعبت وسائل الإعلام –في المعسكرين- أدوارا فاقت إمكانيات المجتمع البسيط، وتكفي الإشارة السريعة إلى أن جيش العسرة قد ضم كل القيادات التاريخية جنبا إلى جنب مع قيادات الصف الأخير الذين حملهم فتح مكة على الإلتحاق بالصف بسبب اتساع دائرة التعبئة، ومازال في نفوس بعضهم "شيء" مما سوف تكشف عنه الأيام. برغم ما حاول رسول الله (ص) تأليف قلوبهم به بتوزيع غنائم هوازن على سادة وكبراء قريش ممن انكسرت قلوبهم يوم فتح مكة جبرا لخواطرهم.
ذلك أن المنهج الذي سلكه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في توزيع الغنائم يوم حنين كان منهجا تربويا جديدا ذا بعد قيادي توريثي يشبه دروس التلخيصات النهائية لمنهج أوشك على الاكتمال، وصار من حق كل منتمي لمدرسة القيادة أن يحصل على شهادة التخرج من موقع "الامتياز" الخاص أو "اللقطة" التربوية المحذرة من المآلات التي كان قد اختارها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم حنين طريقة تأليف للقلوب في توزيع الغنائم، وهي المعاملة التفاضلية لغير أهل السبْق –عدا المهاجرين- التي أغرت كثيرا من المؤلفة قلوبهم بالدخول في هذا الدين، لأنهم شاهدوا بأم أعينهم أن محمدا "زاهد" في لعاعة الدنيا، وأن أصحابه (عليهم الرضوان) قد زهدوا بزهد قائدهم وقدوتهم، وأنهم جميعا قد بلغوا سقفا عاليا من الإيثار التربوي الذي فصل فصلا نهائيا بين مبدإ التجرد لإعلاء كلمة الله وبين الريوع التي تتساقط تحت أيديهم كلما حقق الإسلام نصرا جديدا، فقد تخلوا عن هذه "اللعاعة" ليصنعوا من أنفسهم قدوة للمؤلفة قلوبهم وللجيل الصاعد.. وتنازلوا عن حقوقهم لمن مازال قلبه مشدودا بها، وسموا بأنفسهم فوق المطامع، فصار هدفهم الكبير ما عند الله وليس ما عند الناس : "وما عند الله خير للأبرار". ومن هذه المدرسة النبوية نستخرج الدروس المربية.
8- الدروس المربية : انفتاح المجتمع الإسلامي الأول على "الطلقاء" الداخلين في الإسلام يوم فتح مكة وعلى المستسلمين للأمر الواقع يوم حنين..حمل "مشكلات" جديدة يمكن أن نسميها الشعور بالأناقة (أي اعتقاد الشخص أنه جدير بالتقديم لأنه، في نظر نفسه، زعيم وصاحب فضل على الناس) وهي عقدة كان لابد من علاجها، خاصة أن قائدا كبيرا بحجم مالك بن عوف النضري سيد هوازن كان قد وضع يوم حنين، خطة "حياة أو موت" في مواجهة الزحف الإسلامي فوجد نفسه وعشيرته خارج مضمار الحياة وبعيدا عن أشباح الموت (وهو الأسر والسبي) فقد أخرج كل قومه للحرب :
- أخرج إلى أرض المعركة النساء والأطفال والشيوخ
- وساق إلى أرض المعركة الشاة والبعير والبقر والحمير..
- وأنزل إلى أرض المعركة المقاتلين من الرجال والصبيان ووضع خلف كل مقاتل أهله وماله وأولاده وبناته..ليدافع كل رجل عن شرفه، ويستميت في القتال إذا أدرك أن هزيمته سوف يترتب عنها سبي نسائه وبناته وأسر رجاله وأطفاله وشيوخه، وغنيمه كل أمواله..أي أنها الخسارة الماحقة أمام الزحف الإسلامي المتوالي.
وهو ما حصل فعلا، فانهزام هوازن، يوم حنين، بهذه الكيفية المهينة (أسر بعض رجالها، وسبي نسائها، وغنيمة كل ممتلكاتها..) كانت "كارثة" عليها وعلى قائدها مالك بن عوف، لذلك تجرعت القبيلة كلها مرارة الهزيمة التي تعتري كل قيادة وتجري على كل حركة وتمس كل مجتمع، وتفطن رسول الله (ص) إلى هذه الأحاسيس المرة فأراد معالجتها قبل استفحالها بدفعهم إلى أن يُسلموا باعتزاز، فهيأ لهم أجواء هذه المكرمة باتخاذ ثلاث خطوات استباقية :
- إمهال الصحابة (عليهم الرضوان) في توزيع غنائم هوازن طمعا في إسلامهم
- البحث عن صلات أرحام بين الأسرى والسبايا لاستدرار العواطف الرحمية
- بعث إشارات إلى كبار القوم من هوازن خلاصتها أنْ استدركوا أنفسكم بالدخول في الإسلام لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من عزة وشرف.
وعمل على ربح بعض الوقت بمناوشة ثقيف التي تمنعت في أبراجها وحصونها..بانتظار جولة أخرى..كان رسول الله يحضر لها خطة بارعة يتولى سيد هوازن نفسه تنفيذها بعد إسلامه مباشرة، وهو الذي فرّ إلى تقيف وطلب منهم حمايته في ما يشبه "اللجوء السياسي"، فجاء به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) معززا مكرما ورد عليه أملاكه كلها وزاده مائة من الإبل مقابل إسلامه، ثم وضعه على رأس رجاله –ممن أسلموا- ووجههم لشن حرب عصابات على ثقيف التي تمنعت داخل حصونها.
وخلال خمسة عشر (15) يوما من الإمهال تكشّفت الظروف عن "خبايا" نفوس بشرية مثلت لوحة رائعة من المعاني التربوية العالية وصنعت قدوة عملية بالحب والطاعة والإيثار.. ما أحوجنا اليوم إلى "فقهها" لأنها سوف تساهم في حل كثير من المشكلات العالقة، والتي يأتي في مقدمتها خمسة معضلات مازالت مستعصية عن الحل في واقع كثير من الجماعات الإسلامية أمام مغريات الحياة، وتجيب عن خمسة أسئلة جوهرية هي أسباب كل هذه الخصومات المفتعلة التي يغطيها أصحابها بمسحة من "فقه المرحلة"، وهي :
- كيف عالج الإسلام وضعيات كبار القوم؟
- وكيف استثمر العلاقات وصلة الأرحام في حل مشكلات مستعصية؟
- ولماذا حرص على تأليف قلوب الناس بالمال وحسن المعاملة؟
- وكيف عمل على نزع فتائل التوترات ليطفيء الأحقاد بعد كل نصر؟
- وإلى أي حدّ يجب أن تصبر القيادة على "تجاوزات" بعض أفراد قواعدها طمعا في جبر خواطرهم وعودتهم إلى الصف بعد طول تململ وغياب واختفاء وراء أعذار واهية؟
إن تتبع جزئيات هذا الموضوع وتقصي تفاصيل هذه المعالجات التربوية بحاجة إلى كتاب مستقل، ولذلك سوف أكتفي بتسليط أضواء سريعة على أهم هذه النقاط من خلال دروس السيرة العطرة، وأحاول أن أجمع شذرات ما تفرق في أربعة دروس جامعة للخير كله إن شاء الله.
أ‌- الحرص على الخير :من البديهيات المعلومة أن المسلمين جميعا أمة خير، وأن كل مسلم حريص على أن يصبح الإسلام هو المهيمن على حياة الناس، وكل مخلص لدينه يعمل على نقل الناس من مجرد الإحساس بالانتماء للإسلام جغرافيا وتاريخيا وثقافيا..إلى تمثُّل الدين والحياة به صلاة ونسكا وحياة ومماتا على مفهوم العبودية الخالصة لله تعالى، وأمام هذا الحرص على تكثير الخير تقف عقبات وتقوم حواجز، من أخطرها وأشدها حرجا على النفس :
- أن يجد كبير القوم نفسه ذيلا في الحق بعدما كان رأسا في الباطل
- أن يرى بعض السادة والكبراء ممن كانوا "عبيدهم" في الجاهلية قد صاروا سادة عليهم في الإسلام سبقا وصدقا وفقها وممارسة..بل تقدما في الصفوف وتصدُّرا للمجالس..
- أن يحس "سيد القوم" نفسه ذليلا، بعد أن ضاع مجده بين عشية وضحاها
- أن ينتهي أمر ما كان الإنسان يدافع عنه طول حياته ويضحي من أجله قد تحول إلى أباطيل يسفهها العقل ويدينها الواقع وتمحو أثارها الأيام.
- أن يكتشف المخلفون والمرجفون أن أموالهم وأولادهم وعشيرتهم..لم تغن عنهم شيئا، وأن الإستجابة لداعي الإسلام (التي رُفضت في ساعات الوسع) قد صارت "قدرا مقدورا" في لحظات العسرة فيستسلمون للأمر الواقع وفي قلوبهم مرارة الهزيمة : "وهم صاغرون".
هنا تظهر قيمة الحرص على الخير، ويتأكد خلق الإكرام والتكريم : "أكرموا عزيز قوم ذل" وتتجسد معاني القدوة التي لا تتشفى في مهزوم ولو كان مشركا، وتحرص على رد الاعتبار له بتشجيعه على أن يصبح "أخا" لنا في الإسلام.. ويتأكد معنى قوله تعالى : "ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير" الدعوة إلى الخير العام، خير يعم ما في القلوب لا ما في الجيوب، ويؤثر ما في الآخرة على ما في الدنيا، وخير ما تطيب به النفوس لا ما تُقطع به الرؤوس.
لقد وقف الرسول (صلى الله عليه وسلم) – في لحظة نصر حاسم- ينظر إلى الغنائم الكثيرة التي سُلبت من هوازن ووُضعت بين أيدي المسلمين، ولاحظ حرص البعض على التعجيل باقتسامها لينالوا حظهم منها، ولاحظ إن من بين السبايا فتيات صغيرات وعجائز مسنات، ومن بين الأسرى أهل عز في قومهم..وأدرك بحسَّه المرهف وقدوته المربية أن الذين انهزموا اليوم كانوا بالأمس في عزة ومنعة وكرامة وسؤدد، وأن استباحة البيضة وحيض الجناح –إذا لم يُجبر بما يعيد للنفس الاعتبار- سوف يورث في النفس أحقادا وإحنا، وأن الحرص على جبر الخواطر المنكسرة من صميم هذا الدين، وإذا كان اجتهاد سيد هوازن قد أفضى به إلى أن يضع قبيلته كلها في هذا الموقف المهين ويعرضها للمذلة والسبي والعار..فإن على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يلقي إليه بحبل إنقاذ ينتشله من هذه اللحظة القاتلة، وقد فعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أفضل من مجرد إلقاء خيط إنقاذ، فقد رأى في مالك بن عوف نموذجا للرجولة فأراد أن يطعمها بالإسلام ويسخرها في خدمة الدعوة ونشر الرسالة، مع أن الرجل فرّ إلى حصون ثقيف وطلب منهم الحماية من زحف الإسلام، فأراد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يعيده إلى الصف الإسلامي قائدا ويستخدمه في حرب ثقيف :
- أمهل الصحابة في توزيع الغنائم ليربيهم على القدوة
- بعث إشارات تربوية إلى كبار القوم أن أدركوا شرفكم
- استثار العواطف بالبحث عن صلات الأرحام
- حث الصحابة على التنازل عن الدنيا لفائدة الدين..
- بعث رسولا إلى قائد هوازن يطمئنه على حياته ويعطيه الأمان ويدعوه إلى الإسلام مقابل منحه عطايا كثيرة عربونها مائة (100) من الإبل، وقد تصل إلى "تحرير" السبايا كلهن اللاتي بلغ عددهن ستة الآف (6000) سبية مع بعض الأسرى، وهو عرض مغري لزعيم قاده اجتهاده العسكري إلى الزج بكل عشيرته في معركة خاسرة ونهايات مهينة..
وهنا برزت لدى بعض القيادات (منهم من كان يقف في الصف الأول) رغبة بشرية كانت مخفية، فقذف الله بها إلى السطوح، وعراها النص القرآني : "منكم من يريد الدنيا" لقد ظهر من داخل الصف من يستعجل اقتسام الغنائم ويلح في الإسراع بها، ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) يرجئهم على أمل أن تتحرك نخوة كبار القوم في هوازن فيسلموا وتسلم بإسلامهم القبيلة كلها ويحفظوا بذلك مالهم وشرفهم..حتى لو كان إسلامهم ضربا من الاستسلام، المهم أن ينطقوا بالشهادتين ويعترفوا بأنهم كانوا خاطئين ويتأكد لهم حرص الإسلام على حب الخير للناس أجمعين :
- وطال انتظار رسول الله (صلى الله عليه وسلم) رحمة بمن كان عزيزا فذل
- وطال معه تردد هوازن في حسم أمرها في غياب زعيمهم مالك بن عوف
- وكثرت إلحاحات "من يريد الدنيا" مستعجلين قسمة الغنائم ليستفيدوا من ريوعها
- وبدأت عيون البعض على الشاة والبعير، وعيون الآخرين على الطفلة والصغير، وعيون آخرين وآخرين على السيوف والدروع والغطاء الوثير..
- وبرزت رموز عالية وقدوات طائلة تؤثر ما عند الله على ما في أيدي الناس..
وما أصعب ضغط هواجس النفس حين تتزين لها الدنيا وتفتح عليها زهرتها، وما أعقد مسؤولية القيادة إذا لاحظت بعض قواعدها ترنو عيونهم إلى الغنائم، وتتزاحم على الباب الواحد مضخمة "نصيبها" من الدنيا، وأخطر من كل ذلك أن تتعارض مصلحة الدعوة مع مطامع النفس..وبمعاينة سريعة أدرك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن حالة التململ بدأت تتسع دوائرها، وأن حرصه يزداد على هداية هوازن بإرادة الخير لها وحملها على أن تسلم عن طواعيه واختيار بلا حرج ولا تردد.. مقابل رد هذه الغنائم عليهم هو الخيار الأمثل، ولكنه قرار سوف يكون صعبا على نفوس بعض الذين لم يستوعبوا بعد حقيقة هذا الدين ولم يتشربوا دروس الإيثار ممن أعجبتهم كثرتهم فجر هذا اليوم، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت وولوا مدبرين..ثم هاهم مساء هذا اليوم تندحر تحت أقدامهم الزحوف وتتساقط أمام عيونهم الفرسان وتتجمع بين أيديهم الغنائم وتخضع لهم الرقاب وتسوق لهم الأقدار السبايا من بنات هوازن؟؟ ماذا كانوا سيخسرون لو أنهم آثروا إسلام ثمانية عشر ألف إنسان مقابل التنازل عن زخارف الدنيا وغنائم ساقها الله إليهم؟؟
ولأن الوقت –أمام إغراءات المادة- لا يعمل عادة لصالح المبادئ، فقد تفتقت عبقرية القيادة على حل تربوي لم يكن ليخطر على بال، لقد وجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الفرصة سانحة ليذكر المصطفَّين على باب الغنائم بأن النصر لن يتحقق بشكل مثالي إذا لم يستتبع ببعض اللقطات التربوية، وأولها البحث عمن لم يقعوا في الأسر –من كبار محاربي الإسلام- وتقصي أثارهم، فتذكر رجلا يدعى بجاد (قيل إنه كان شديد القرابة من الشيماء أخت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الرضاع، فأراد أن يستحث بعض المتطوعين من الشباب على التضحية لاكتشاف "خفايا" الغزوة ومعرفة بعض بركاتها، وليربح بذلك بعض الوقت، لعلّ هوازن تستدرك نفسها فتُسلم، فقال مخاطبا فرسانه : "إن قدرتم على بجاد فلا يفلتن منكم" وبجاد هذا هو مقاتل من هوازن عاث في الأرض فسادا، فلما أحاطت بقومه الدوائر عرف كبير جرمه فأراد الفرار، فلما أدركته الخيل استسلم بلا مقاومة فقبض عليه وتم ضمه إلى الأسرى فوقع في مجموعة الشيماء بنت الحارث، أخت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الرضاعة فضيق الأنصار عليها وعلى بجاد فصارت تقول لهم : "إني والله أخت صاحبكم" فما صدقها أحد لأنهم ما كانوا يعلمون أن لمحمد (صلى الله عليه وسلم) أختا من الرضاعة فصل بينهما الإسلام منذ أزيد من 18 عاما، بعد أن تباعدت بينهما المسافات، فلما بالغت في الإعلان عن أخوَّتها لرسول الله حملوها إليه ونسوا أمر بجاد الذي كان سببا في التعرف على الشيماء، التي ما أن وقفت بين يدي رسول الله (ص) :.
- فقالت : يا محمد إني أختك من الرضاعة
- قال (صلى الله عليه وسلم): "وما علامة ذلك".
- قالت : عضة عضضتنيها وأنا متوركتك (حاملتك على ظهري) بوادي السرر، ونحن يومئذ برعائهم، أبوك أبي وأمك أمي..وقد نازعتك الثدي (وكشفت عن مكان العضة) فعادت به الذاكرة حوالي سبعت وخمسين (57) عاما إلى الوراء..إلى بادية بني سعد حيث لم يتجاوز عمره يومئذ أربع سنوات، وها هو اليوم (صلى الله عليه وسلم) يتقدم نحو الواحدة والستين (61)عاما. ويشم ريح مواطن رضاعته ومرابع طفولته..في صورة أخته الشيماء.
لقد عض هذا الطفل المبارك أخته، وهي تحمله على ظهرها، "عضة دخلت التاريخ" وكانت سببا في وضع آخر لمسات منهج تربوي عظيم، ومن غير دخول في تفاصيل دقيقة لهذه المزحة البريئة بين أخت وأخيها انتهت إلى أن يسكتها بعضة "دخلت بها التاريخ"، نؤكد اليوم بأن الشيماء التي لاعبت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في بادية بني سعد، وهي طفلة فقيرة لأمًّ مرضع، صارت أعظم مرضعة في تاريخ الإنسانية كلها ودونتها كتب السير باسم حليمة السعدية، ها هي ابنتها تجد نفسها في لحظة تاريخية تتحول –بعد ستين عاما- إلى سفيرة مفوضة فوق العادة تفاوض باسم أخيها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قبيلة هوازن وكبراءها. وتدعوهم إلى الإسلام بعد أن أسلمت وأسلم على يديها، أو معها، عمها..وتوالى بعد ذلك الناس يسلمون..فالمسلم محب للخير حريص على هداية الناس إلى خير العمل.
ب- القلوب قبل الجيوب : كان بإمكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يسلك الطريقة التقليدية في إقناع هوازن بالدخول في الإسلام، فيرسل لمالك بن عوف (كبير هوازن) يخيره بين اثنتين كلتاهما شديدة المرارة على النفس البشرية، لا سيما إذا كان صاحبها زعيم قومه فيقول له :
- إما أن تسلم فنرد عليك الأسرى والسبايا والغنائم
- وإما أن تصر على شركك فتضيع منك هذه الفرصة وتعيش حياتك كلها ذليلا حقيرا
ولكن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يعرف طبيعة القلوب المنكسرة ويدرك مرارة الجمع بين الهزيمة وتحميل مسؤوليتها فاختار طريقا ثالثا يحفط للإنسان كرامته ويكرم "عزيز قوم ذلّ" طريقا ليس فيه منطق الخيار المذل (إما ...وإما) ولا الاشتراط المخل فكلتا الطريقتين بابهما مسدود، وكلتاهما نهايتها مرة، وكلتاهما نازلة تترك في النفس مشاعر الخضوع و المهانة والذل، لقد اكتشف المفتاح السحري الذي ما إن يطرق قلبًا مجروحا حتى يتجاوب معه كما تتجاوب الأرض العطشى مع نزول الغيث، إنه مفتاح العلاقات الإنسانية مفتاح وسائط الخير ورسل السلام من الذين يعبدون الله بما هو أفضل من الصلاة والزكاة والصوم "إنها عبادة "إصلاح ذات البين". فأرسل من يشجع عوف بن مالك على استدراك نفسه وإنقاذ شرف قبيلته، فيعلن إسلامه ويبقى "أميرا" على قومه..
فبعد أن تأكد من أن محدثته هي أخته الشيماء، التي قطعت الأيام بينهما مسافة زمنية زادت عن السبعة والخمسين (57) عاما لم يرها ولم تتواصل معه في أحلك أيام النشأة وبداية مراحل الدعوة، وها هي اليوم تذكره بمزحة جرت بين شقيقين مضى عليها ستين (60) عاما تقريبا.
قرر أن يستخدمها مفتاحا للخير..فوثب (صلى الله عليه وسلم) قائما يتفحص العضة ويتملى وجه أخته، ثم يبسط رداءه بين يديها قائلا : "أجلسي عليه" وجلس بجوارها يسألها عن تفاصيل دقيقة وعن ذكريات بعيدة: عن أمه وأبيه من الرضاعة، وعن ظروف بني سعد..ولما أعلمته بوفاتهما دمعت عيناه..وعادت به الذاكرة إلى زمن الطفولة الأولى، إلى واحد وستين (61) عاما خلت.. وقال لها بحرقة وشوق : "إن أحببت فأقيمي عندنا محببة مكرمة..وإن أحببت أن ترجعي إلى قومك وصلتك ورجعت إلى قومك..".
اختارت أن تسلم بين يدي أخيها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأسلمت ونطقت بالشهادتين، وفضلت أن تعود إلى قومها، فأهداها أخوها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما أهداها، ولما رجعت وجدت "بجادا" في وضعية سيئة لما ينتظره من مصير مجهول.. فأخبرت قومها بما حدث لها فقالت لها مع أخيها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نسوة الحي لو كلمت أخاك محمدا في شأن بجاد..شفاعة له ففعلت فقبل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) شفاعتها، فكانت هذه اللفتة التربوية بداية لحل مشكلة عمت بركاتها –بعد أخت رسول الله وبجاد- كل من له صلة بالرضاع وبصلة الأرحام وبكل من عرف بني سعد قبل أزيد من ستين عاما (60) خلت.

وكان يمكن أن تعرف المسألة طريقها إلى الحل بشكل سريع وبطريقة سلسة لولا بعض التوترات.
فبعض النفوس تكره أن يعم الخير الناس إذا كان هذا الخير يتطلب التنازل عن بعض المنافع الخاصة (الحق في الغنيمة) من أجل إنقاذ الناس من الشرك ومن النار، ذلك ما حصل فعلاً، فقد فهم بعض الذين تابعوا وقائع هذا الشريط التربوي الذي ساق أخت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى مسرح الأحداث أن محمدا (صلى الله عليه وسلم) حريص على إسلام هوازن، ودخول هوازن في الإسلام قد يحرمهم من اقتسام الغنائم، فسارعوا إلى الدفع باتجاه الإسراع في توزيعها فجعلوا يحرضون الأعراب على الفصْل فيها فأكثروا عليه بالسؤال والإلحاح، بل والتدافع للاقتراب منه حتى علق رداؤه بسمرة (شجرة جافة) فالتصق ببعض أغصانها فنزعته وكشفت عن جزء من الجسد الشريف، والناس يتدافعون لرؤية ما بدا تحت الملابس..وبعضهم يذكّره بحقه في الغنائم، والإسراع بتوزيعها.. فصار(صلى الله عليه وسلم) ينادي قائلا : "أعطوني ردائي..أعطوني ردائي..لو كان عدد هذه العضاة نعما لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذابا ولا جبانا".

لقد بدأ بعض الأعراب يتجاوزون حدود اللياقة ويفقدون ضوابط الأدب مع رسول الله (ص) من أجل لعاعة من الدنيا خوفا أن يفوتهم حظ اقتسامها، وكان من حق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يتصرف معهم بما يعيد لهم جادة العقل ويضع كل "جندي" في مكانه المناسب ولكنه حرص على المضيّ في تربية هذه النفوس الحريصة على متاع الدنيا ليخرج منهم قادة للبشرية ويعمل على أن يرتفع بهم فوق المطامع العارضة، وكان الأمر بحاجة إلى شيء من الوقت يتم فيه تجسيد خطوتين كثيرا ما تضيعان داخل الزحام إذا لاحت للأبصار الغنائم وتزاحم الناس على باب اقتسامها :
- الحرص على هداية الناس قبل الحرص على اقتسام الغنائم
- صناعة نماذج عالية من القيادات القدوة تقدم ما في القلوب على ما في الجيوب وتترك حظوظها من الدنيا إيثارًا لما يريده هذا الدين من رموز عالية وقدوات مربية...
ورأى الرسول (صلى الله عليه وسلم) القلوب واعية والآذان صاغية والنفوس مهيأة للتلقي فانتزع وَبرة من سنام بعير ورفعها بين إصبعيه أمام أنظار كل المشاهدين وقال بصوت عال : "أيها الناس، والله مالي في فيئكم، ولا هذه الوبرة، إلاّ الخمس والخمس مردود عليكم" وفُهمت الرسالة واستوعب الجميع الدرس.

ج- الدفع بالحسنى : حبس الصحابة الغنائم والأسرى والسبايا في حظائر الجعرانة بانتظار أوامر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) باقتسامها، وبعضهم كان يستعجل هذه الخطوة..فلما وصل ونظر إليها لاحظ أن بعض الناس جعلوا ظلالا يستظلون بها كأنها حظائر، فسأل عمن تحت ظل الحظائر، قالوا : هذا سبي هوازن استظلوا من الشمس..فأمر (صلى الله عليه وسلم) أولا بكسوتهن إكراما لآدمية اللاتي ساقهن القدر إلى هذه النهاية المؤسفة بانتظار مزيد من الوقت قد تتحرك فيه النفوس لاستدراك المصير المنتظر إذا قُسّمت الغنائم وقضي الأمر.

في الطرف الأخر واصلت الشيماء سعيها..ونجحت في إقناع عمها أبي برقان (وهو عم رسول الله من الرضاع) على أن يمضي ليقابل رسول الله ويكلمه في شأن هوازن كمقدمة لمعالجة مشكلة ذات شقين :
- الحيلولة دون اقتسام الغنائم مؤقتا ودفع الصحابة إلى التنافس على الخير والإيثار
- ثم دفع أهل هوازن، وزعيمهم عُوف بن مالك، إلى الخضوع لأمر الله وإعلان إسلامه وإسلامهم (سوف يكون له شرف قيادة الحرب على ثقيف باسم الإسلام؟؟).

وجاء أبو برقان كأول موفد، وقابل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وخاطبه بعاطفة الأرحام والرضاعة، وأبدى له الاعتراف برسالته ونبوته معلنا إسلامه، قائلا : يا رسول الله إنما في هذه الخطائر من كان يكفلك من عماتك وخالاتك وحواضنك..وقد حضناك في حجورنا وأرضعناك من ثديّنا، ولقد رأيتك مرضعا فما رأيت مرضعا خيرا منك، ورأيتك فطيما فما رأيت فطيما خيرا منك، ثم رأيتك شابا فما رأيت شابا خيرا منك، وقد تكاملت فيك خلاّل الخير..ونحن مع ذلك أهلك وعشيرتك، فا منن علينا منَّ الله عليك.."
كانت هذه أول قطرة غيث، وبداية خير على هوازن..فقد أسلمت أخته ثم عمه..ثم أربعة رجال..
وانهمر الغيث، وتوالى الخير..فجاء بعد أبي برقان أربعة عشر (14) رجلاً كلهم أشهروا إسلامهم يقودون جمعا غفيرا ممن اختاروا أن يُسلموا، وقال رؤساؤهم كلاما يصّب في نفس ما ذهب إليه أبو برقان : نُشدان صلة الرحم..تذكير بالفضل والخير..دفع بالتي هي أحسن.. التماس الفضل والعفو من رسول الله..وكلها نداءات تستدر عطف هذا النبي الذي كان ذات يوم رضيعا في قبيلة بني سعد، وهل بنو سعد إلاّ من هوازن؟
كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يريد أن يربيَّ الحريصين على اقتسام الغنائم على مكارم الأخلاق والتنازل.. وإيثار إسلام هوازن على غنائمهم، وتجسيد معنى التضحية والاعتقاد بأن هداية الناس خير لهم من أموالهم، وإسلام المشركين أولى من اقتسام غنائمهم وصناعة القدوة مقدمة تربوية للتأثير في نفوس الناس وكسب قلوبهم والتحاق النساء والرجال بركب هذه الدعوة كل ذلك أفضل عند الله من سوْقهم سبايا وأسارى، وأن ما في أيدي المقاتلين من غنائم هو حقهم ولكن التنازل عنه مقابل إسلام أزيد من ثمانية عشر ألف (وقيل ثلاثون ألفا، منهم ستة آلاف سبيّة) أعظم عند الله، وكلها دروس تربوية معلومة ومؤكدة بالقرآن الكريم : "يا أيها النبيّ قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم.." ولكن المهمة لم تكن سهلة، والتنازل عن الغنائم والريوع لم يكن تلقائيا، وبين حرص الرسول (صلى الله عليه وسلم) على هداية هوازن –وتسليم زعيمها بحقيقة هذا الدين- وبين حرص بعض الصحابة (عليهم الرضوان) على أخذ حقهم من الغنائم، قامت مدرسة للتضحية والقدوة والإيثار..فكيف عالج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كل هذه التركة؟ وماذا فعل لإنقاد زعيم هوازن من المصير الذي وضع فيه قبيلته كلها وعرضها لهذه النهاية المؤلمة؟ وكيف عالج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حرص بعض الصحابة على حقهم في الغنائم قامت مدرسة للتربية أطلق عليها اسم : مدر
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
القيادة حب
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات لمسات حنان :: لمسات التطور والتقنية :: الصوتيات والفيديو-
انتقل الى: